بقية الموضوع
الحمد لله:
الحمد يبني في نفس العبد المؤمن الرضا ويُربيها على قبول قضاء الله بحب وسعادة، والكبار قد تربت نفوسهم على إظهار الشكر والمبالغة في إظهاره، كما علمهم الإسلام ورباهم على ذلك، فما من نازلة تنزل بهم، أو مصيبة تصيبهم إلا وحمدوا الله عليها.
وهذا الخلق الكريم لم يأت من فراغ فالحمد ديدنهم، والشكر هو عادتهم في كل أمور حياتهم.
فالكبار قد تعلموا في مدرسة النبوة أنه إذا أكل وأتم طعامه حمد الله على رزقه وقال "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَكَفَانَا وَآوَانَا فَكَمْ مِمَّنْ لا كَافِيَ لَهُ وَلا مُؤْوِيَ" (صحيح مسلم، ح- 4890)، وإذا شرب قال: "الحمد لله الذي جعله عذبًا فراتًا برحمته، ولم يجعله ملحًا أجاجًا بذنوبنا" (شعب الإيمان للبيهقي، ح- 4304).
والكبار تعلموا في مدرسة النبوة أنهم إذا لبسوا ثوبًا جديدًا فيقولون معترفين بنعم الله عليهم "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي هَذَا الثَّوْبَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلا قُوَّةٍ" (سنن أبي داود، ح- 3505)، والكبار إذا استيقظوا من نومهم قالوا مسبحين بحمد ربهم "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور" (صحيح البخاري، ح-5837).
والكبار يسبحون بحمد ربهم حتى بعض قضاء حاجتهم وخروجهم من الخلاء "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني" (سنن ابن ماجة، ح- 297).
والكبار إذا رأوا أهل البلاء، سبَّحوا بحمد ربهم على نعمةِ المعافاة قائلين: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلاً" (سنن الترمذي، ح- 3353).
ثم ها هم يرددون في كل صباح ومساء بنفس راضية مطمئنة، معترفين بفضل الله عليهم "اللهم إني أصبحت منك في نعمة وعافية وستر فأتم علي نعمتك وعافيتك وسترك في الدنيا والآخرة"، ثم الاعتراف بالفضل الكامل لله رب العالمين لا شريك له "اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْكَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ فَلَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ" (سنن أبي داود، ح-4411).
هذا حال الكبار يغمرهم شعور بفضل الله عليهم، شعور الذاكر لنعمه، المعترف بآلائه، الشاكر لفضله.
الرضا من حسن الخلق:
الرضا من حسن الأدب مع الله، فلا ينبغي لعبد أنعم الله عليه بنعم كثيرة، أن يعترض أو يتبرم من قضاء قدره الله ولا يُعجبه، ولعل عدم إعجابه أو تبرمه ناتج عن عدم معرفته بحقائق الأمور والحكمة من ورائها، وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (216)﴾ (البقرة).
وفي هذا المعنى يُوصي لقمان لابنه: أوصيك بخصالٍ تُقرِّبك من الله, وتباعدك من سخطه: أن تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وأن ترضى بقدر الله فيما أحببت وكرهت".
وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى- رضي الله عنهما-: أما بعد, فإن الخير كله في الرضا, فإن استطعتَ أن ترضى وإلا فاصبر.
قصص واقعية
الأحداث اليومية، والمواقف الحياتية التي يتعرض لها البعض قد تكون أبلغ أثرًا في نفوس الآخرين، ذلك أنها حقيقة ملموسة، وتأثيرها يتعدى الشخص نفسه إلى المحيطين به لما فيها من موعظة بليغة، وعبرة عظيمة.
أعرف إنسانًا أخفق في تحقيق حلمه بدخول إحدى كليات القمة التي كان يتمناها، فلما أخفق كانت عليه علامات السخط والتضجر والضيق مما أصابه، غير أنه التحق بإحدى الكليات والتي تفوق فيها وحصل على المركز الأول في مراحلها المختلفة وتعين في كليته حتى أصبح أستاذًا فيها، وكان ذلك سببًا في فتح أبواب الرزق له، بجانب المكانة الاجتماعية بين أقرانه وعائلته، وفتحت له أبوابًا للعلاقات العامة مع المسئولين وأصحاب المراكز العليا في بلدته.
تُرى هل لو كان يعرف كل هذا، كان سيعترض أو يتضجر عندما أخفق في تحقيق حلمه، ولكن الإنسان دائمًا ما يجحد وينسى فضل الله عليه.
وأعرف أخرى كانت تنجب البنات دون البنين، وكانت تتمنى الولد، وكانت علامات عدم الرضا واضحة على وجهها، حتى أنها صرحت في إحدى جلساتها مع صديقاتها أنها تريد ولدًا ولو كان متخلفًا أو معاقًا، وحملت المسكينة وقد كان ما أرادت حملت بالولد المعاق ذهنيًّا، والذي كان سببًا في حدوث الكثير من المتاعب لها، حتى أنها كانت في بعض اللحظات تتمنى وفاته كي تستريح.
تُرى ماذا لو رضيت بقسمة الله لها، واستسلمت لقضاء الله وحكمه فيما أراد.
وأعرف آخر كافح ونافح ليذهب في رحلته المسافرة إلى بلدته، بعد أن تأخر عن موعد الرحلة، ولمَّا لم يجد سبيلاً لعودة مقعده الذي حصل عليه آخر، جلس لينتظر الموعد القادم، وعلامات الغيظ والضيق وعدم الرضا قد ارتسمت على قسمات وجهه، وطول فترة انتظاره وهو يتمتم بعبارات الاعتراض، والقلق على مواعيده التي تأخرت، ومصالحه التي تعطلت، وركب في الموعد الجديد، ولا يزال وجهه عابسًا، وأسلوبه حادًّا في الحديث، حتى إذا انتصف الطريق وجد الحافلة التي كان سيستقلها قد انقلبت في حادث على الطريق ومات أغلب ركابها، وأُصيب الباقون، وأشلاء الركاب ملقاة على الطريق، حينئذ على صوته قائلاً "الحمد لله" .. الآن فقط انفرجت أساريره، وابتسم ثغره، وعاد إلى طبيعته. حينئذ فقط نطق بكلمة الحمد إذ لم يكن في هذه الحافلة مسافرًا.
من هنا نقول إن الإنسان لا بد له أن يرضى بقضاء الله وقدره، ويُحاول إدراك الحكمة الإلهية من وراء الحدث ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)﴾ (الحديد)، فالقرآن الكريم يوجهنا إلى تلك الوسطية في ردود الأفعال، وعدم المبالغة الزائدة في الفرح أو الحزن، وأن نضع كل موقف في حجمه الصحيح، فلا حزن يكسر النفس فيقعدها، ولا فرح يُلهينا فننسى فضل الله علينا. بل إن النبي- صلى الله عليه وسلم- قد استعاذ من الحزن المضر الذي يقعد بالإنسان عن الهمم العليا والطموح المتجدد، فقال- صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ" (صحيح البخاري، ح- 5005).
نماذج من الراضين
الكبار في خلق الرضا كُثر، ونماذج مُبهرة، كلها تؤكد أن حب الله والإيمان به، وراء ثبات هؤلاء الكبار وقبولهم بما يحدث لهم دون جزع أو ضيق.
إمام المتقين:
ويأتي على رأس هذه القائمة- قائمة الراضين عن ربهم- رسول الله صلى الله عليه وسلم، إمام المتقين، والقدوة لكل من أن أراد أن يتخذ مثلاً أعلى يحذو حذوه أو يقتفي أثره، إنه النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم.
ويحضرني الآن موقفه صلى الله عليه وسلم عندما ذهب داعيًا أهل الطائف إلى الإسلام، فطردوه وأدموه وآذوه أيما إيذاء، وهو الرسول الكريم، والنبي الخاتم، أتخيله صلى الله عليه وسلم، وقد استظل تحت شجرة يناجي ربه "إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع ليّ" انظر إلى الرضا في كلماته صلى الله عليه وسلم، واقرأ معي الحديث كاملاً وتأمل وهو النبي الذي لو أراد أن يدعو الله أن يطبق عليهم الأخشبين لفعل.
يقول صلى الله عليه وسلم في دعائه:
"اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟! إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي.
أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، لا حول ولا قوة ألا بك" (السيرة النبوية لابن كثير ج2- ص 150).
وفي وصية جامعة ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ولأمته من بعده، يوضح فيها ضرورة الاستسلام التام لقضاء الله وقدره، والرضا به يقول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ فَاعِلاً فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي" (صحيح البخاري 5239).
قائد القادسية:
سعد ابن أبي وقاص من مغاوير الصحابة، ورجالاتها الشدائد، جاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبلى بلاءً حسنًا في ميادين القتال، قاد المسلمين إلى النصر في معارك كثيرة، أشهرها معركة القادسية، دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون مستجاب الدعوة، وقد كان يلجأ إليه الكثير من الناس كي يدعو لهم، فكان يدعو لهم، غير أن هذا الصحابي الجليل وهو أحد الُمبشرين بالجنة، وصاحب الدعاء المستجاب قد فَََقَدَ بصره في آخر عمره، وقد سأله شاب أن يدعو الله أن يرد عليه بصره وهو مستجاب الدعوة: فكان جوابه جواب الراضي القانع بقضاء الله: قضاء الله أحب إليًّ من بصري، أفيرضاه الله لي ولا أرضاه لنفسي، والله لا أدعو.
الفاروق:
والفاروق عمر بن الخطاب من الصحابة الأجلاء الذين جاهدوا في الله حق جهاده، من الكبار الذين كانوا يرضون بقضاء الله وقدرة، ويقبلون بما نزل بهم من سوء، أو أصابهم من شر، وها هو يقول لنا ويرشدنا كيف كان الكبار يرضون بقضاء الله، فقد كان رضي الله عنه إذا أصابه ما يكره يحمد الله على أربع: أنها لم تكن في دينه، وأنها لم تكن أعظم من ذلك، وأن له فيها الأجر العظيم، ثم يتذكر المصيبة الكبرى بفقده النبي صلى الله عليه وسلم فتهون أي مصيبة بعدها.
الرضا والطمع
الكبار راضون بما قسم الله لهم من رزق، وما قسم لهم من وظيفة، وما قسم لهم من ذرية، وما قسم لهم من سكن، لا يستسلمون لنزعات الحرص والطمع التي قد تصيب الكثير من الناس.
هذا الحرص والطمع على متاع الدنيا وإن كان مجبولاً عليه كل بني آدم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لَوْ أَنَّ لابْنِ آدَمَ مِثْلَ وَادٍ مَالاً لأَحَبَّ أَنَّ لَهُ إِلَيْهِ مِثْلَهُ وَلا يَمْلأُ عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إِلا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ" (صحيح البخاري، ح- 5957).
رغم هذه الحقيقة التي تكاد تكون ملازمةً لبني البشر إلا أن الكبار يسعون إلى الاعتدال وتحقيق التوازن الداخلي الذي يحقق في نفوسهم الرضا عن قناعة وحب.
الرضا الذي يمنحهم السكينة والسعادة التي تُبعدهم عن السخط أو النقمة على حالهم وأوضاعهم.
فالكبار قد رسخ في يقينهم أن كل نفس مكفول لها رزقها "أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ" (سنن ابن ماجة، ح- 2135).
خطورة عدم الرضا
بالإضافة أن عدم الرضا بفعل الله وقضائه وقدره على عبده، لن يُضيف جديدًا للعبد، أو يزيل عنه ما نزل به من بلاء، بل على العكس من ذلك تمامًا فإن عدم الرضا يجعل الصدر ضيقًا ويُزيده همًّا وحزنًا.
غير ذلك أنه سيحظى بسخط الله ومقته عنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ" (صحيح البخاري، ح- 2320).
والكبار يسعون دائمًا إلى تحقيق التوازن بين الحب الفطري للمال ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)﴾ (الفجر) وبين التطلع لما في أيدي الناس، لما في الطمع والتطلع لما في أيدي الغير من خطورة على نفس المتطلع، وعلى غيره كذلك.
ومن هنا كان التوجيه القرآني الخالد الذي دعا إلى القناعة والرضا بقسمة الله وعدم التطلع إلى ما عند الغير بنظرة يملؤها الحقد أو الحسد أو الغيرة ﴿وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)﴾ (طه)،
فالكبار قد تأكد لديهم أن الطمع متى تمكن من القلب واستبد به، أصاب النفس الجشع وملأها الغل، وكرهت الخير الذي يأتي الناس، فتحسدهم وتتمنى زواله، وهذه النفس في حقيقتها لا تشبع من كثير، ولا تقنع بقليل، بل تظل عينيها ممتدةً إلى ما عند الغير متطلعة إليه.
الرضا والحسد
الكبار ومن خلال الرضا الذي زرع في قلوبهم، وتربت عليه نفوسهم يحبون الخير لإخوانهم، وهو لا يعترض على تفضيل الله لبعض خلقه، أو توسيعه في الرزق ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)﴾ (الروم).
أما صغار النفوس فتستعر نفوسهم حقدًا وحسدًا وغلاً على حالهم وينسون قوله تعالى ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ (النساء: من الآية 54).
صغار النفوس يسهرون الليل ولا ينامون بسبب خير أنزله على غيرهم، أو توسعة حلًّت على عبد من عباد الله، يكاد الغيظ يقتلهم، والهم يفتك بهم.
أما الكبار فيوقنون أن رزق الله مقسوم ومقدور، فهم يعلمون أن الخير ليس في كثرة المال، كما أن الشر ليس في قلته، بل قد يكون المال وبالاً على صاحبه، ورُب فقر قاد صاحبه إلى التواضع وزاده قربًا من ربه.
والكبار يحسدون، ولكنه حسد من نوع آخر، حسد أقرهم عليه الرسول الكريم، وأثنى عليه، إنه الحسد المحمود بل والمطلوب يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا حَسَدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا" (صحيح البخاري- 71).
مفهوم القناعة
الرضا عند الكبار لا يعني التنازل عن الصدارة والقيادة في مجالات الحياة المختلفة، وهي كذلك لا تعني الرضا بالدونية وقتل الطموح في النفس، أو الرضا بالجوع والفقر والحرمان، والزهد في التميز وطلب معالي الأمور.
إن الرضا المطلوب هو القناعة برزق الله أيًّا كان، رضا يحفظ للفرد سكينته واطمئنانه وهدوءه، رضا يضبط التطلع ويحقق التوازن المطلوب، فلا تطلع وسخط يصيب الإنسان فيقعده عن العمل، ويُقلل من همته من التغيير، ويفت في عزمه لمجابهة الظلم، أو تطلع لأمر مستحيل الحدوث، صعب التحقق.
وذلك كالساخط على شكله وهيئته التي خلقها الله عليها، كأن يكون أسود، فيتمنى البياض، أو يكون قصيرًا فيتطلع إلى الطول، أو الفتاة متوسطة الجمال تتطلع إلى جمال خارق، فكل هذا مما لا طائل من التفكير فيه، ولا من ثمرة مرجوة من السخط، إنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء ﴿وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ (النساء: من الآية 32).