أسرة مكونة من أب وأم ومجموعة من الأبناء ما بين بنات وأولاد.. يعيشون معًا فترة من الزمان ثم يفترقون.. كذلك الحال بالنسبة للمعلم وتلميذه.. يمرون بنفس القصة.. عِشرة ثم افتراق.."أحبب من شئت فإنك مفارقه" .
ألا إن في نفس كل إنسان فارقته لا تزال هناك لوحة أنت رسامها.. تقع بين ملايين اللوحات الموجودة في قلبه..
هل هي لوحة كئيبة: سماء مربدة.. ملأى بالغيوم السوداء.. والظلام يبتلع شوارعها.. وخيوط العنكبوت على أبواب مبانيها؟
أم لوحة مورقة.. تتجدد مع الأيام.. الشمس تسير في نهارها.. والبدر يضيء ظلمتها.. الورد يتفتح في صباحها.. والأشجار تثمر في مواسمها؟ ***
لنجلس معًا على مائدة إحدى الأسر..انظروا إلى طريقة الأكل.. إنهم يأكلون بأيديهم..هل يهمنا ذلك؟ كلا.. ولكن انظروا جيدًا.. الابن الأصغر كيف يطلب من شقيقته كأسًا من الماء.. نعم.. إنه خشن الطبع قليلاً.. يفتقر إلى أسلوب الخطاب والطلب: "هيه..أعطيني ماء بسرعة.. بسرعة" كلنا الآن ننظر إلى الأخت الكبرى فالماء عندها. كيف ستقابل طلبه؟ عقدت حاجبيها.. صرخت في وجه أخيها: "ألا تعرف كيف تقول (لو سمحت؟)".. يرد عليها: "لن أقولها.. هات الماء".. ترد بفظاظة أكثر: "وأنا لن أعطيك الماء" تتدخل الأم غضبى: "أنتم قليلو الاحترام".. يقوم الأب من فوق المائدة: "الحياة معكم لا تطاق"..
***
عفوًا.. ألا زلتم تشاهدون الموقف معي.. لقد بقيت الأخت الوسطى والأخ الأكبر على المائدة..انسحبا بهدوء بعد أن لملمت الأخت الوسطى الصحونَ ووضعتها في المطبخ.. أحب أن نتعرف على الأخت الوسطى أكثر وليكن اسمها (بلسم) فهي أهل لهذا الاسم..
***
وقت العشاء.. كلهم على المائدة.. كلهم يأكلون بصمت..أخذت بلسم الماء قربها..صاح الصغير:"هااااااااات كأسا من الماء" نظرت الكبرى إليه شزرًا.. تقول بنظراتها ما قالته بلسانها على الغداء..تبادلها أمها نظرات أكثر حدة.. لكي تغض طرفها.. والأب بدأ بالتململ..في هذه الثواني المشحونة.. تشرق وبقوة ابتسامة بلسم مادة كأس الماء إلى أخيها:"تفضل يا عزيزي" ..
***
كيف هي حياة بلسم اليومية؟ ما البرنامج الذي تسير عليه.. ما الألوان التي تختارها لكي ترسم لوحاتها الجميلة في قلوب الناس من حولها؟ إنها تحب لون السلام.. تضعه في لوحة كل من تقابله.. حتى ابن شقيقها الذي لم يتجاوز عمره الشهر لم يحرم من سماع هذه التحية الزكية منها..
الابتسامة ظل مبدع تضعه بلطف تحت أشجار لوحاتها..
عندما تستيقظ من النوم صباحًا..أو تعود من جامعتها مساءً..لابد وأن تدلف إلى كل فرد من أسرتها تسلم عليه وتسأله عن حاله.. وتقدم له رأيًا أو مساعدة.. أو ملاحظة رقيقة على عمله..
على المائدة .. بقدر حبات الأرز المعروضة هناك ألوان زاهية يمكن إضافتها للوحاتها.. ليست بلسم وحدها التي تستطيع استخدام هذه الألوان.. بل كل فرد يمكنه ذلك.. إن بلسم تقرب أصناف الطعام إلى والديها.. تمد البطاطس المقلية إلى شقيقها الصغير؛ فهو يعشق هذا الصنف ولا يشبع منه أبدًا.. سعل أكبر إخوتها.. قدّمت له كأس الماء دون أن يطلبه منها.. وهي التي مدت بالملعقة لشقيقتها الكبرى.. هل تتخيلون الصورة التي رسمتها في اللوحات؟ فراشة ملونة تدور بين الأزهار.. أو نحلة تجمع الرحيق لصنع العسل..
لنترك مائدة الطعام..ها هو شقيقها المشاكس يقف فوق خزانة الملابس..آه.. وقع على الأرض.. الضحكات تتعالى من إخوته.. كل يدلي بتعليق سمج.. أو متهكم: (أحسن.. تستحق ذلك.. ليتك لا تزال واقعا ولم تصل إلى الأرض بعد...) ولكن بلسم لها شعور مختلف.. وتصرف آخر.. أمسكته من يده.. رفعته عن الأرض.."سلامتك..هل تأذيت؟" هكذا رسمت بلسم القمر في لوحة أخيها..
***
هل تظنون أن بلسم لا تطلب شيئًا من أحد؟ بل على العكس فهي لا تخجل من طلب الخدمة أو المساعدة أو أي شيء آخر من أسرتها.. ولكنها تعرف المعادلة التي تصل بها إلى الطرف الثاني بنجاح.. فهي تعلم كما أنه من حقها أن تطلب فمن حق الآخر أن يرفض إن لم يستطع تنفيذ الطلب.. تعرف أن الطلب لن ينفذ إلا إذا أراد الله له أن ينفذ.. وتعرف أيضًا أن الطلبات لا يجب أن تكون كلها مجابة.. تمامًا كما لا يمكن أن تكون كلها مرفوضة..
***
اصدقوا النية..تحزموا بالصبر.. وستجدون أمامكم علبة الحياة مفتوحة تعطيكم أزهى الألوان لرسم لوحاتكم..
***
قال أكثم بن صيفي:"إنما أنتم أخبار فطيبوا أخباركم